Saturday, November 13, 2010

آلات..قصة قصيرة







اليوم هو أول أيام الدراسة لى وأنا فى الفرقة الرابعة بكلية الطب ،لا أصدق حتى الآن أنى اجتزت ثلاث سنوات بأكملها داخل هذه الكلية الكئيبة ،الكل ينظر إلى وكأنى طبيب رغم أنى لا أفقه فى الطب شيئاً ،أحفظ وأحشو مخيخى بالمعلومات وأصبها فى ورقة الامتحان آخر العام ।



"أمى أين البالطو ؟"







حتى هذا البالطو الأبيض لا أدرى لماذا أرتديه وأحمله معى كل يوم ،لم أتعامل حتى الآن مع أى مريض ليستوجب الأمر ارتداؤه ،ربما هى شكليات ومظاهر اعتادها طلاب الطب منذ بداية دراستهم .


أتناول طعام الإفطار بسرعة وأنا واقف كالعادة ،تنصحنى أمى بأن أستبدل تلك "التكشيرة" التى تصاحبنى دوماً مع بداية أي عام دراسى بابتسامة تفتح لى أبواب الخير، ولكنى حتى الآن لم أستمتع قط بما أدرسه حتى أذهب إليه وأنا سعيد ، دخلت الكلية إرضاء لرغبات الأهل وأسير فيها على مضض أيضًا لأجلهم ،أشعر أن مواهبى قد دمرت، فى الثانوية كنت زعيم الأنشطة الدراسية فى مدرستى وكنت رائد الشعر والأدب بين زملائى ،ماذا حدث لى ؟ إلى متى سيظل هذا الفكر العقيم متسرباً إلى عقول الأهالى بأن من يحصل على مجموع عال لابد وأن يدخل الطب
متى ستنكسر هذه القاعدة الرجعية ؟!


"مع السلامة يا أمى"

"مع ألف سلامة يا باسم يا حبيبى ..ربنا ينورلك طريقك ويرزقك نور الفهم "




دعوات أمى تقلب على المواجع دائماً ،أنا لا أفهم، نعم يا أصدقائى أحدثكم بصدق أصبحت غبياً منذ دخولى الجامعة .
وهذا ليس بسببى وحدى ،إنما يشترك فى ذلك هؤلاء الأساتذة المحاضرون وأسلوبهم الخاطئ فى عرض المعلومات .
أراهنكم أنى سأذهب الآن مع أولى محاضرات المادة ليحشو الطبيب أذهاننا بمعلومات مسرودة فيما يقرب من أربعين أو خمسين صفحة والمطلوب منى فهمها ،أقصد طبعاً حفظها حتى آتى اليوم التالى وتتكرر المأساة ..وهكذا حتى نهاية العام.



إلى متى سيظل الوضع هكذا ॥؟!

ألن يعرفوا بعد أن طلبة الطب بشر مثل بقية الناس لهم الحق فى أن يعيشوا ويستمتعوا بالحياة مثلهم مثل غيرهم ؟!..تباً لهم .


وصلت الكلية بسلام الحمد لله ،وكالعادة متأخراً ،لا يهم، أعرف أنى سأدخل لأغط فى نوم عميق أو ألهو أنا وزملائى ،
تسللت من الباب الخلفى دون أن يشعر المحاضر وجلست فى المقاعد الأخيرة ،أطلقت بصرى هنا وهناك لأبحث عن "أحمد وخالد"صديقاى العزيزان،


نعم هما هناك فى هذا المقعد ولكن مابالهم صامتين هكذا كأن فوق رؤسهم الطير عجيب ذلك الأمر منذ متى ؟!



جو المحاضرة به شئ ما غير طبيعى ،ليست هذه هى المحاضرات التى اعتدت عليها ،هدوء عجيب وإنصات لم أرهما على أصدقائى فقط بل امتد ليشمل باقى المدرجات।


الكل يستمع باهتمام ،والأغرب تلك الابتسامة التى ألحظها على شفتيهم تنم عن استمتاعهم بالحديث..لا لا أصدق ..ماذا يحدث؟!


التفت وجهى بعد ذلك إلى المحاضر والذى نادراً ما أشغل بالى برؤيته .
شخص وسيم ..يرتدى ثياباً أنيقة ..يبدو على هيئته أنه قد تخطى الستين عاماً ..قد كسا شعيرات رأسه اللون الأبيض الذى أقسم ألا يترك شعيرة واحدة سوداء ،
لكن وجهه لا يزال يحتفظ بحيويته وكأنه فى سن صغيرة .
عيناه واسعتان يشع منهما بريق أمل وتفاؤل لم أره من قبل داخل عينى أى محاضر .



صوته يوحى بشخصية مهذبة راقية نوعاً ما ॥لهجته المصرية ليست صافية يخالطها بعض كلمات أجنبية وكأنه عاش بالخارج فترة، وهذا فعلاً ما تأكدت منه أثناء حديثه يقول ..


"....فعندما سافرت إلى أمريكا انبهرت جداً بنظام التعليم الجامعى هناك ،تعاملت مع الطلبة فى جامعاتهم طيلة عشر سنوات مضت ،ملأتنى الغيرة على أبنائى الذين هم أنتم وعدت لأكون بجواركم لأساعدكم أن تكونوا مثلهم وأفضل ،فأرجوكم أن تساعدونى ....)



ماهذا الكلام ؟! ..أول مرة أسمعه يقال لنا ..هل حقاً يمكن أن نتغير ونكون مثلهم ؟!


يستكمل المحاضر حديثه ..
"...دائماً أقول لنفسى عد إلى مصر ،حتى وإن لم تر فيها ما تستريح له نفسك ،يكفيك أبناؤها .
مصر ستظل حلوة بكم أنتم يا أبنائى ..أنتم خير أجناد الأرض ، فلماذا تأبوا أن تكونوا كذلك ؟!..."


"...بإذن الله أنا معكم فى هذه المادة (مادة طب المجتمع )وأريدكم أن تكونوا معى،
سنبدأ من الغد شرح المنهج فعلياً بمحاضرة نظرية مدتها نصف ساعة لا أكثر وبعدها سيتم توزيعكم على فرق عمل صغيرة العدد ،كل فريق له قائد هو المتحدث الرسمى باسم فريقه ،القائد سيتغير كل يوم ،ليأخذ كل طالب دوره فى القيادة ومهارة الحديث ،لكل فريق أيضا عضو من أعضاء هيئة التدريس هو المشرف عليه ، ستتناقشوا معاً طيلة ساعة كاملة فى موضوع المحاضرة ،أريد أن أسمع أفكاركم ،تعليقاتكم ،ابتكاراتكم واقتراحاتكم،



سيكون عليكم واجب أسبوعى ،واجب الأسبوع هو (مرض انفلونزا الخنازير) على كل فريق أن يذهب إلى شبكة المعلومات والموسوعات الخارجية يبحث عن أصل وتاريخ المرض ،ومن سيأتى بمعلومات جديدة ليست مكررة سيصعد بجوارى هنا على المنصة ليأخذ الميكروفون ويعرضها على زملائه وله منى جائزة نقدية قيمة ...."



وما زال المحاضر يتكلم وأنا أشعر بشئ غريب يسرى في جسدي وانتفاضة تنبعث من داخل أعماق قلبي،هل قد جاء الوقت الذي سأستمتع فيه حقاً بدراستي ،هل ستتحقق دعواتك يا أمي ؟!نعم ..ربما سيعوضنى الله خيراً جزاء استجابتى لندائك ونداء أبى *رحمه الله* بدخول كلية الطب .


وأنا أحادث نفسى سمعت المحاضر ينهى كلامه بقوله (اتفقنـــــا ..؟ّ) وإذ بالصوت يعلو داخل أرجاء المدرج وأنا معهم ( اتفقنــــاااااااا...)



هو الدكتور "حلمي عــز الديـــن " نعم اسمه كذلك ، هذا ما عرفته من زملائي بعد المحاضرة ،كنا سعداء للغاية،عدنا جميعاً للمنزل لنهيئ أنفسنا لبداية سنة دراسية جميلة ।


طيلة أيام الدراسة مع الدكتور حلمى :




كانت من أجمل أيام حياتى،أشهدكم يا أصدقائى أن عقلى بدأ يتفتح من جديد بعدما ذبلت خلاياه



॥آفاقى عادت لتتسع شيئاً فشيئاً بعدما ضاقت ممراتها وتقوقعت سنوات طويلة।
عشنا سوياً مغامرات إبداعية اكتشفت فيها أنا وجميع زملائى مواهباً بداخلنا كانت مدفونة ।



ها هى "سارة" زميلتى ،لم أكن أعرف أنها محترفة للغة الإنجليزية بطلاقة مكنتها من محادثة الأساتذة الكبار بصورة منقطعة النظير ،
أما "إبراهيم"صمم لنا عرض إلكترونى رائع عن العلماء الحاصلين على جائزة *نوبل* فى مختلف المجالات ،
"ريهام"تسلمت الميكروفون نيابة عن المحاضر وشرحت لنا أجزاء لم تكن مفهومة فى المنهج بشجاعة وتلقائية فريدة ،
و"دعاء" يا أصدقائى لم تنم ليال طوال لتعد لنا معلومات عن العادات الطبية الخاطئة المنتشرة فى بلادنا.
أما "حسين ،صفوت وعبد الرحمن "بذلوا مجهوداً شاقاً لتجميع كل ما يتعلق بالطب فى الإسلام .
و"سهير " البارعة علمتنا طرق الإسعاف الأولى وإنعاش القلب والدورة الدموية بعدما بحثت عن فيديوهات مختلفة من على مواقع الإنترنت متعلقة بهذا الموضوع ،
و"أسامة " الظريف كل يوم يضحكنا جميعاً بتعليقاته البارعة ونقده البسيط لأعمالنا بروح مرحة .




وزملائى أحمد ..خالد .. حسام ..وائل ...شاهنده وسارة ، كلنا معاً..يد واحدة ..أسرة واحدة، أخرج من المحاضرة بروح مختلفة وشخصية مختلفة ،أستطيع أن أثبت لكم الآن أنى أصبحت قادراً على التعايش مع الآخرين بصورة كبيرة وقبولهم ولو اختلفوا عنى ،أصبحت مثقفاً.. تخيلوا.. استطعت أن أدخل فى حوارات مختلفة مع الأساتذة وزملائى وأتحدث بلباقة .



تريدون أن تسألونى على موهبتى ..الشعر..أليس كذلك ؟! لا تخافوا لم أنسه، نعم فقد أعدت بفضل الله صياغة معظم المعلومات الطبية التى أعرفها إلى قصائد مسجوعة وموزونة أبهرت الجميع .
لكن، لا أخفى عليكم أنى "خائف" لا أدرى ما سبب ذلك المعكر ،ربما أخاف أن ينتهى العام وألا نجد "د/ حلمى" آخر فى السنوات القادمة ونعود لحال الآلات الذى كنا عليها!لا أصدق أنى سأظل فرحاناً هكذا ،الأيام تمر حلوة كل يوم ...شئ غريب


فأنا لم أفرح قط منذ دخولى بوابة الجامعة ॥



لا لا سأطرد هذا الهاجس ،المهم ما أنا فيه الآن।

أنا الآن لست "باسم" المتشائم ..ولا أريد أن أسمع هذه الكلمة...
أنا سعيــــــد ومتفائل بإذن الله .

فى نهاية العام ،قبيل امتحان المادة :

أجلس اليوم على مكتبى ،وقد أعددت لى أمى فنجاناً للقهوة لأستمتع بمذاكرة المادة ،أمى سعيدة جداً، تفرح دائماً عندما ترى بسمتى .لأول مرة أذاكر باستمتاع أيام الامتحانات ، عزيمة تملأنا لنحقق تقدير عال جداً هذا العام حتى يفرح بنا د / حلمى .

وفجـــــأة ......
اتصال على هاتفى المحمول...
من صديقى أحمد ..






"باسم ...تعرف ماذا حدث ؟ "




"خيراً يا أحمد"







" د /حلمى ...لن نره بعد الآن ..قد قدم استقالته لإدارة الكلية ووافقت على ذلك وهو الآن عائد إلى أمريكا مرة أخرى "




"مـ مـ ماذا ؟ ماذا تقول يا أحمد تأكد من ذلك ॥"







" الخبر أكيد ....للأسف"







"كيف فعل د /حلمى ذلك فهو يحبنا ..؟"







"عرفت أن إدارة الكلية كانت تسبب له مشاكلاً كثيرة بسبب ما يفعله معنا ..لم تكن راضية عن تلك الطريقة ."
انفعلت للغاية واستطردت حديثى ...





"نعم!! ...أى طريقة تقصد ؟




تقصد أنها لم تكن تريدنا أن نستمتع ،لم تكن تريدنا أن نفهم، وأن نكون لأنفسنا فكراً وعقولاً واعية،
لم تكن تريدنا أن نصبح مثل شباب أمريكا حتى لا ننهض بالبلد ،




كانت تسبب له مشاكلاً لأننا أحببناه ،



لأنه كان يفتح لنا أبواب مكتبه التى نادراً ما نرها مفتوحة مع أى أحد غيره ،
لأنه صنع منا رجالاً خلال شهور قليلة وغرس فينا قيماً كنا قد فقدناها ،
تقصد أنها خافت من التغيير،




أليس هذا صحيح يا أحمد؟!"

"بلى يا صديقى ،يبدو أن الفرحة لم تكتب لنا بعد،
المكتوب علينا أن نظل طول العمر آلات تحفظ المعلومات وتنجح وتأكل وتنام......فقط ."



تمتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل عام والأمة الإسلامية بخير وعيد أضحى مبارك