Thursday, May 5, 2011

كان يا ما كان



أشعر بإرهاق شديد ، العمل كان شاقاً جداً اليوم ،الطريق إلى المنزل طويل ،أريد أن أطير بالسيارة لألحق بالفراش وأستمتع بالراحة ولو لساعات ،

يا إلهى ؛ قد يكون هناك أعمال شاقة أخرى الليلة.. إذا لم تكن قد نامت تلك الصغيرة ،
ترهقنى كل يوم تلك الشقية فى تأليف حكاية ليلية لها ،أتمنى أن يكون غالبها النعاس فلا تؤرقنى معها ،

وصلت المنزل بسلام وقبل أن أمد يدى لأضع مفتاح الشقة فى حيث موضعه، فُتح الباب واستقبلتنى الصغيرة "ياسمين" من خلفه بابتسامتها الجميلة التى تنسينى كل عناء اليوم فيا لحظى الجميل والذى ما كنت أتمناه فى الوقت ذاته !

حملتها لأحتضنها ،فقبلتنى قائلة :

"تأخرت كثيراً يا أبى ،فقد انتظرتك طويلاً ....لتحكى لى حكاية قبل النوم"

لا تترك أبداً حقها فى تلك الحكايات ،دائماً ما أبذل الحيل للهرب منها حتى أستطيع أن أستريح قليلاً لكنها دائماً ما تصطادنى بحيل أخرى .

"أمرك يا صغيرتى "

ماذا أحكى لها ؟،

هؤلاء الأطفال أصبح لهم تفكير خاص بجيلهم ،لا يرتضوا بقصص "سندريللا " و"الشاطر حسن " يعتبرونها من الطراز القديم ،لا تجذبهم سوى الحكايات المشوقة المملوءة بالصخب والحركة ،وأنا ذهنى خال تماماً بعد مشقة العمل ،

"يا رب ذكرنى بأى حكاية لأرضى تلك الصغيرة "

سبقتنى إلى غرفتها ثم استراحت على فراشها وباتت تصغى إلى عندما اطمئنت أننى بجانبها،

بدأت الحكاية كالعادة بــ"كان يا ما كان ..."

لا أذكر شيئاً ،ماذا أقول ؟!

ماذا أقول قبل أن تتهمنى ياسمين بأنى لا أحفظ قصص الصغار ؟

"كان يا ما كان ..."

"هيا يا أبى ؛ وماذا بعد كان يا ما كان؟!"

هؤلاء الأطفال لا يمتلكون كلمة صبر فى قواميسهم ،يريدون كل شئ فى الحال ،يا لحظ من يتعامل معهم !

أحاول أن أعصر ذهنى بأى طريقة وأنا أداعب الصغيرة فى شعرها ، جذبتنى أشرطة ملونة اعتادت أن تضعها ياسمين ،فجال بخاطرى شيئ ما .

أخذت أفكر قليلاً ،ثم واصلت حديثى ،،

"كان يا ما كان ، فى أحد البلدان ، كان هناك رجل ظالم يحكم بلد كبير وأهلها طيبون ،ولكنه كان يعذبهم ،ويسرقهم ، ويشرد أطفالهم الأبرياء فى الطرقات ، حتى أنه كان يحرمهم من الأكل ويمنعهم من الكلام ...


مرت السنوات عليهم وهو حاكم لهم فكرهوه جميعهم ،لكنهم كانوا خائفين أن يخبروه بذلك ،أو أن يقولوا له أنهم لا يريدوه حاكماً لهم ،خافوا من التعذيب والإهانة والحرمان أكثر مما هم فيه، وارتضوا بذلك وظلوا صامتين سنوات طوال...


وفى نفس الوقت ؛ كان هذا الحاكم يحب الكاذبين الذين يضحكوا عليه ويقولوا له أنهم يريدوه وكان يغدق عليهم الأموال ولا يحرمهم من شئ ...


ولكن الطيبين ضاق بهم ذلك الأمر وقرروا فى وقت واحد أن يخرجوا ليقولوا له "ارحل" نحن لا نريدك
...

تعتدل ياسمين فى نومتها ،خيل لى أنها تستعد للنوم ولكنى وجدتها تنصت من جديد وتنظر لى وكأنها تدعونى لأن أكمل ...

واصلت الحكى ..

"خرجوا جميعاً فى مكان واحد ،يهتفون فى صوت واحد ،بكلمات واحدة ،حرية ،عدالة ، مساواة ...

تحرك الصغيرة عينيها ،يبدو أنها تفكرعن معان فى قاموسها لهذه الكلمات .

"حرية يا ياسمين ؛أن تقولى ما تشائين وتفكرى كيفما شئت ولا يمنعك أحد أن تعبرى عن رأيك طالما أنك لا تقولى شيئاً عيب أو حرام ، عدالة ومساواة بأن تتساوى ياسمين مع زميلتها فى الفصل وتأخذا ما تستحقاه من الدرجات "

تبتسم الصغيرة ،فتبدو لى أسنانها البيضاء الأنيقة والتى لم تسلم من تساقط كما الأطفال فى سنها ،ذكرتنى ابتسامتها ببراءة الطفولة فتذكرته ،

"..كان معهم طفل كالبدر مثلك تماماً ،كان يدعى - بلال- خرج من بيته و لم يعد فى المساء حتى يتناول طعام العشاء مع والدته ،لكنه ذهب إلى مكان جميل فى الجنة عند ربنا سبحانه وتعالى "

تلمع عينى ياسمين ،تستشعر شيئاً غريباً فى القصة ،لم أرد أن أشرح لها التفاصيل،أو أن أعكر صفو براءتها ،فواصلت الحديث للتو حتى أقطع أى فرصة للنقاش ،


"..وكان معهم يا ياسمين امرأة عجوز كبيرة فى السن جاءت وهى لا تستطيع السير إلا بصعوبة حتى تساندهم ،وكانت تحضر معها الطعام والشراب للجوعى والعطشى ..
كانوا يرفعون رايات كلها خير ،كلها سلام ، كانوا يد بيد الغنى يصحب الفقير ،والصغير يحب الكبير ، يقف المسلم بجوار المسيحى يرفعون القرآن والصليب فى آن واحد ويهتفون –ايد محمد ويا حنا ، بلدنا هتصبح جنة
_ ..


ظلوا فى هذا المكان أياماً طويلة، يضحكون ويبكون معاً ، يتألمون ويفرحون معاً ،يصلون معاً ، يركعون ويسجدون معاً ،يدعون معاً أن ينصرهم الله ويحفظ بلدهم ،إلى أن استجاب الله لهم ولبى دعاءهم ..وسعدوا جميعاً..."


شعرت بسكون الصغيرة، ولمحت جفنها يهبط تدريجياً ،
ختمت الحكاية سريعاً وأنا أقبلها لتنام
"فقط أريدك أن تسعدى أنتِ أيضاً ،لأن الحكاية هذه كانت فى بلدك الجميلة- مصــر- وهؤلاء الطيبون خرج معهم أبوكِ شاباً من أجلك أنتِ يا عزيزتى ".


ذهبت إلى فراشى أخيراً لأنعم بالراحة المفتقدة ، وما إن بادرت بوضع رأسى على الوسادة حتى شعرت بها تخرج من غرفتها لتطرق بابى ..وتدخل ،

"ظننتك قد نمت يا ياسمين !"

"لا يا أبى ؛أريد أن أقول لك ....


أنى أحب كريستين وكريستين تحبنى ، وأننى سأعطى حمزة الماء إذا طلب منى، لن أمنعها عنه ،لن أفضل أن أجلس بجوار سارة لأن عيونها خضراء وأترك مريم ،سأشارك زملائى فى علبة الألوان المائية الكبيرة التى أهداها لى جدى ، وأننا سنزرع حديقة الروضة سوياً"


"بارك الله فيكِ يا حبيبتى " نهضت من فراشى لأحتضنها ،


"أبى ؛ أريد منك شيئاً آخر الآن "


وما إن أومأت رأسى بالموافقة حتى طارت كالعصفورة إلى غرفتها ،وعندما عادت كانت تحمل ورقة بيضاء كبيرة وألوانها المائية ...

"أبى ؛أريدك أن ترسم معى علم مصر "

"الآن!!!"

"إذا كنت تحبنى .."

تستدرك عطفى دائماً ،لا أستطيع أن أرفض مطالبها البريئة ،فقمت على الفور بصنع فنجاناً من القهوة ،افترشت أرضية الغرفة،

و قضيت ليلتى بين الألوان والأوراق مع تلك الصغيرة مردداً وراءها،

"يا أغلى اسم فى الوجود .. يا مصر ،يا اسم مخلوق للخلود ..يا مصر "



تمتــ